قصة نوح والطوفان: ملحمة العهد الإلهي وتجديد البشرية

قصة نوح والطوفان: ملحمة العهد الإلهي وتجديد البشري

تُعد قصة نوح (عليه السلام) والطوفان العظيم إحدى أعظم الملاحم الدينية والتاريخية التي تشترك فيها الحضارات الكبرى، وهي محورية في الديانات الإبراهيمية (الإسلام، والمسيحية، واليهودية). إنها ليست مجرد قصة عن كارثة طبيعية، بل هي سرد عميق لدرس إنساني خالد حول الإيمان، والطاعة، وعواقب الفساد، ومبدأ التجديد الإلهي.

1. الفساد البشري والنداء الأخير

تصف النصوص المقدسة، بما في ذلك القرآن الكريم والتوراة (سفر التكوين)، حقبة ما قبل الطوفان بأنها فترة انحطاط أخلاقي واجتماعي غير مسبوق. ساد الكفر والظلم والعنف (حيث يُذكر في التوراة أن الأرض "امتلأت ظلماً")، وابتعد الناس عن فطرتهم وعن تعاليم خالقهم.

في خضم هذا الضلال، اختار الله نبيه نوحاً، ليقوم بمهمة التبليغ والدعوة. قضى نوح مئات السنين يدعو قومه إلى التوحيد وترك المعاصي، مستخدماً كل أساليب الترغيب والتحذير، لكن رد فعل القوم كان التكذيب والسخرية والصد، حتى وصل الأمر إلى درجة اليأس من إيمانهم.

> الدرس الإنساني: تبرز قصة نوح هنا قيمة الصبر المطلق في مواجهة الإعراض والتحدي، وتؤكد على أن الرسالة الإلهية تُقدم كإنذار نهائي قبل وقوع العواقب.


 

2. الأمر الإلهي وبناء الفلك: رمز النجاة

عندما استنفد نوح كل سبل الدعوة، جاء الحكم الإلهي بضرورة تطهير الأرض. تمثلت إرادة الله في بناء "الفلك" (السفينة)، ليس فقط وسيلة للنجاة، بل كرمز للعهد الجديد والبداية الطاهرة.

كان بناء الفلك نفسه معجزة وتحدياً:

 * السخرية والتحدي: قام نوح ببناء سفينة ضخمة في منطقة قد تكون صحراوية أو بعيدة عن مسطحات مائية كبيرة، مما زاد من سخرية قومه منه، لكنه كان يرد عليهم بثقة المؤمن: \text{“قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ”} (هود 38).

 * التوجيه الإلهي: تم بناء الفلك وفقاً لمقاييس وتفاصيل محددة أوحى بها الله (نوع الخشب، الأبعاد، الطبقات)، مما يجعله تجسيداً للطاعة المطلقة والتسليم لأمر الله.

 * التنوع البيولوجي: أُمر نوح أن يحمل معه من كل الكائنات الحية "زوجين اثنين" (ذَكَر وَأُنثَى)، لضمان بقاء النسل البفيفي وإعادة إعمار الأرض بكل أشكال الحياة بعد انتهاء الكارثة.

3. الطوفان العظيم: تطهير وبدء جديد

حانت اللحظة الفاصلة، ووقع العذاب الموعود. تشير الروايات إلى أن الطوفان لم يكن مجرد مطر غزير، بل كان حدثاً كونياً غير مسبوق:

 * انفجار الأرض والسماء: فتحت "أبواب السماء بماء منهمر"، و"فارت التنور" (تفجرت ينابيع الأرض)، مما يدل على تضافر قوى الطبيعة بتدبير إلهي.

 * النجاة بالفلك: دخل نوح والمؤمنون به فقط إلى الفلك، ليطفو على الماء الذي غطى كل شيء، حتى أعلى الجبال. لم ينجُ من البشرية سوى هذه الفئة المؤمنة.

تُبرز هذه اللحظة عدل الله المطلق: حيث لا تنفع القرابة أو النسب دون الإيمان. وأبرز مثال على ذلك هو هلاك أحد أبناء نوح (الذي رفض الصعود إلى الفلك) وزوجته الكافرة، مما يؤكد أن النجاة كانت قائمة على أساس العهد الإيماني وليس العائلي.



4. العهد والقوس: ضمانة الاستمرار

بعد أن استمر الطوفان لمدته المقدرة، صدر الأمر الإلهي بانحسار الماء: \text{“وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي”} (هود 44). استقرت السفينة على جبل الجودي، ونزل نوح ومن معه ليبدأوا مرحلة جديدة، حاملين على عاتقهم مهمة تعمير الأرض وإعادة نشر الإيمان والتوحيد.

في الختام، جعل الله قوس قزح علامة للعهد الإلهي، مؤكداً للبشرية أنه لن يعيد تدمير الأرض بطوفان مماثل.

> الخلاصة: قصة نوح والطوفان هي تذكير دائم بـ "السنة الإلهية" القائمة على أن الفساد المطلق يؤدي إلى التدمير، وأن الإيمان الصادق هو سفينة النجاة. لقد كان نوح هو الأب الثاني للبشرية، ومن نسله تفرعت الشعوب التي عمرت الأرض بعد الطوفان، مما يجعل قصته ليست تاريخاً قديماً، بل هي الأساس الذي بُنيت عليه الحضارة الإنسانية الجديدة.


Post a Comment

Previous Post Next Post